قصتي القادمة مثيرة عجيبة وهي تخص مدام نادية الأربعينية المطلقة التي أخذت تمص لي ذبي دون مقابل بعد حادث سيارة قد اودى بحياة ابنها حمادة وشاء القدر أن أنجو انا. ” نادر حبيبي انت صاحي؟” هكذا ايقظتني مدام نادية بعد أن غيبني المخدر الذي تعاطيته ليخفف من ألمي في المستشفى . انفتحت عيناي ووقفت مدام نادية هناك وقد ارتسمت معالم الأسى على وجهها والقلق كذلك فسألت: “ حبيبي.. هو انا صحيتك؟ اجبتها وكان حلقي قد جفّ: “ لا .. أنا بس كنت مريح.” اقتربت مني وجلست بجوار مخدتي وقالت متأسفة: “ معلش لو كنت بضايقك … أنا بس كنت بطمأن عليك… متزعلش أنا أم حمادة، مدام نادية… أكيد مش فاكرني.” ولكني بالطبع افتكرتها فهي السيدة التي كنا نطلق عليها ” أم الكل” والتي يحبها كل واحد فينا كشباب في سن الثامنة عشرة. قلت: “ ﻷ طبعاً فاكرك ، هو عامل دلوقتي؟” رفعت وجهي إليها فوجدت أن الماسكارا قد ساحت من أثر دموعها وأن ذلك الوجه المثير بقسماته السكسي ، مثل وجوه نجمات الإغراء، قد علته الفجيعة والأسى. قالت: “ حالته مش كويسة، للأسف.. لسه مغمى عليه… وورم في المخ من أثر الحادثة ومش عارفين هيعل العملية ولا لأ.”
كان ما حدث لي ولحمادة أبن مدام نادية بسبب حادثة سيارة كان يقودها حمادة ونحن في طريقنا من العمل للبيت، وذلك في منتصف الليل، إذ كسرت عربية بي أم دابليو الإشارة واصطدمت بسيارتنا من الخلف ، مما جعل السيارة خاصتنا تتقلب حتى اصطدمنا بحائط بشدة. طار الباب بجانبي وانحشرت قدمي فكسرت وكنت أنزف بشدة وأغمي على حمادة وكانت رأسه تنزف. بسرعة فككت عنه حزام الأمان وأخرجته بعد أن كان الموتور قد اشتعل وارتمينا أرضاً إلى أن سحبتنا الناس بعيداً حتى نقلتنا عربة أسعاف إلى حيث هنا، في المستشفى. لم أكن ساعتها فاقداً للوعي ولكن كنت مشوشاً مما حصل ومن كثرة الأصوات حولي. قام الأطباء بعمل جراحة وتركيب مسامير في ساقي لجبر عظمي وكانت أول الزائرين أم حمادة مدام نادية الجميلة التي ستمص لي ذبي وهو ما لم أصدقه حتى اﻵن. طمأنتها وهي بجانبي فقلت: “ متقلقيش … هيكون بخير …. حمادة جامد وهيتعافي .” ابتسمت لي مدام نادية بسمتها الساحرة التي تخلب العقول إلا أنها حزينة وقالت: “ بتمني يا حبيبي… طيب انا كنت بس بطمن عليك لأنك بطل أنقذت حمادة!” قلت لها: “ لا بطل ولا حاجة مهو بردو كان هيعمل اللي عملته..” أمسكت مدام نادية يدي بكلتا كفيها واعتصرتها والدموع تنحدر أسفل خديها الابيضين المشربين بالحمرة الرائقة كحمرة الورود وقالت: “ شكراً نادر…. هجيلك بكرة الصبح اطمن عليك.. عشان رايحين يعملوا جراحة بكرة على حمادة وهطمن عليك.. شد حيلك.” ورفعت ظاهر يدي إلى شفتيها الممتلئتين وقبلتها وعرضت خدماتها:” محتاج حاجة اجبهالك معايا، جرايد ، مجلات ، أي حاجة؟ لأ مش محتاج ؟؟ طيب هسيبك تستريح .. شكراً حبيبي تصبح على خير.”
في اليوم التالي أحسست بتحسن وخاصة لأنّ ممرضة في سني تقريبي كانت تعودني إلا أنها في المساء وقبل أن تنهي ورديتها اتتني بأخبار مُفجعة للغاية! أخبرتني الممرضة الصغيرة أن حمادة مات وهو في غرفة العمليات بعد 9 ساعات متواصلة من إجراء العملية ! كانت الأيام تمرّ عليّ ثقيلة في تلك المستشفى وقد فاتتني جنازة ودفن حمادة صديقي. بعد يومين من ذلك نقلت إلى منزلي وكنت لا أزال غير قادر أن أقف على قدمي. سمعت قرع الباب في الصباح وسمعت صوتً يحييني: “ نادر؟ صباح الخير .” كان الباب موارباً فدخلت مدام ناديةبعد أن سمحت لها بالدخول. كانت ترتدىي الأسود حداداً على ابنها وكان مثيراً على بشرتها البيضاء النقية. دخلت وحاولت أن أنهض لأحييها غير أنها أسرعت وأمسكت بذراعي غير سامحة لي بالنهوض وقالت: “ لأ لأ مقمش… أنا جاية اطمن عليك.” اسندت ظهري مجدداً إلى كرسي الانتريه واستسمحتها أن تغلق الباب وأجبتها: “ لأ دا أنا اللي عاوز اعزيك… البقية في حياتك في حمادة.. “ . اومأت برأسها بحزن شديدِ على وجهها واستأذنت أن تجلس: “ ممكن اقعد؟” فأجبتها : “ تفضلي بكل سرور.” كانت مدام نادية تلبس فستاناً أسوداً قصيراً إلى حدّ ما. جلست ووضعت ساق فوق الاخرى وكعبيّ حذائها يتدلى من كلتا القدمين وقالت: “ انت عارف.. الليلة الي فاتت كنت بموت.. مرهقة جسدياً ونفسياً… بعد العز استريحت شوية وجيت اشوفك.” قلت وأنا أبدي عطفي لها: “ مادام نادية … أنا اشكرك جداً.. أنت أم الكل وأنا متأسف لي حصل وقلبي معاكي .. أنا حمادة التاني.” فأجابت بحرارة شديدة ألقت بظلالها على أحداث اللقاء بيننا فيما بعد: “ أرجوك نادر، ناديني نادية بس… اكيد طبعاً اانت حمادة التاني.” كنت انا اعيش بمفردي في الشقة التي استأجرتها أنا وابنها من أجل العمل في القاهرة الكبرى ولذلك جاءت لي بمعلبات كثيرة من أكل وشرب تكفي طيلة اسبوع كامل.